العمارة الطينية ، من مكافحة الفقر إلى حماية البيئة وصون التراث

2012/12/29

ما من شيء أكثر شيوعاً من المواد ذات الطابع المتعدد الاستخدامات الذي لا ينضب مثل الطين والوحل والتراب الذين استخدمهم الناس في بناء عدد من المعالم الثقافية البارزة، وهي أهرامات الشمس والقمر في تيوتيهواكان (المكسيك)، والكنائس والقصور في مدينة هافانا القديمة (كوبا)، وقصر الحمراء (إسبانيا)، فضلاً عن بلدة شبام (اليمن) التي غالباً ما يقال إنها مانهاتن شبه الجزيرة العربية.

يعمل مركز التراث العالمي لليونسكو مع عدد من المهندسين المعماريين والعاملين في مجال صون التراث عبر العالم للحفاظ على المعارف المتعلقة بالعمارة الطينية وتوسيع نطاقها ونشرها، وذلك من خلال برنامج الهندسة المعمارية للبناء بالطين في التراث العالمي. وفي  ديسمبر 2012 ، استضافت المنظمة في مقرها بباريس ندوة الهندسة المعمارية للبناء بالطين في التراث العالمي.

من المعروف أن ثلث سكان العالم يعيشون في مبان أنشئت في جزء منها على الأقل من الطين وتنوعت التقنيات المستخدمة في بنائها إلى أقصى حد. وأقيمت هذه المباني باستخدام طوب طيني نيئ وكتل وحْلية مضغوطة وقضبان وجص، وغير ذلك من المواد. وهذه المباني، التي أقيمت جزئياً أو كلياً باستخدام الطين، وشيدت مجتمعات بأكملها عدداً منها وحافظت عليها بالاستناد إلى المهارات المتوارثة عن الأسلاف، تمثل 20 في المائة من مواقع الثقافية لليونسكو التي تحظى بإعجاب العالم أجمع والمدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو.

إن دراسة الهندسة المعمارية للبناء بالطين والحفاظ عليها هما من الأمور المهمة في ما يتعلق بصون المواقع التراثية؛ بيد أن الهندسة المعمارية للبناء بالطين توفر أيضاً حلولاً جذابة للمباني المراعية للبيئة في السياق الحديث. فالواقع أن الطين غالباً ما تتوافر محلياً؛ كما أن استخدامها يقلل من الحاجة إلى نقل مواد البناء ثقيلة الحمل.

وعلاوة على ذلك، فإن الجدران المصنوعة من الطين ثبت أن لها خصائص حرارية ممتازة، إذ أنها تقي من حرارة الصيف وبرد الشتاء.

 وقد قام المهندس المعماري المصري حسن فتحي (1900ـ 1989) بابتكار هندسة معمارية مستدامة أو مراعية للبيئة في منتصف القرن العشرين، وذلك بالاستناد إلى تقنيات البناء الخاصة بالإنشاءات الطينية المصرية التقليدية. وقد أثبت (فتحي) ملاءمة هذا النوع من البناء من الناحيتين الوظيفية والفنية على السواء، واضعاً بذلك الأسلوب العربي في الهندسة المعمارية الذي يرضى عنه الناس أكثر من رضائهم عن الأساليب الحديثة الأكثر كلفة لتصميم المباني المأخوذة من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

وبالإضافة إلى ذلك، أثبتت الإنشاءات التي ابتكرها (فتحي) أنها تتميز بفعالية وظيفية، وأبرزت قيمة الحفاظ على ملامح المباني المتوارثة عن الأسلاف، مثل القنطرة النوبية، والتقنية الخاصة باستخدام الطوب الطيني لبناء الأسقف دون الاستعانة بالألواح الداعمة. وقد استفاد العديد من المهندسين المعماريين في شتى أرجاء العالم من أعمال (فتحي) الابتكارية، بمن فيهم مشاهير المهندسين المعماريين المعاصرين الكبار، ومن بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، (رم كولهاس)، (وآلفارو سيزا)، (ووانغ شو)، مما يثبت الإمكانيات الأسلوبية والوظيفية الهائلة التي تنطوي عليها الهندسة المعمارية للبناء بالطين لمواجهة الاحتياجات المحلية والمشتركة في أسلوب معاصر.

وتقوم المجتمعات بتشييد معظم جوانب الهندسة المعمارية للبناء بالطين، وذلك بمشاركة مستخدمي هذه المباني وتحت إشراف أكثر المعلمين البنائين شهرة. وتوجد أمثلة لهذه الممارسات البنائية المجتمعية والديمقراطية في أمريكا وأفريقيا وآسيا. وثمة مبان مثل مساجد تمبكتو قام مجتمع المستخدمين كله بالحفاظ عليها عبر الأجيال؛ وفي هاييتي، تقوم مجموعات من الأسر ببناء منازل بعضها البعض، وهي منازل ثبت أنها تتكيف بصفة خاصة مع ظروف الهزات الأرضية.

 

بيد أنه في كثير من الحالات، فإن انحلال المباني المجتمعية التقليدية جراء عوامل التغير الاجتماعي والتوسع العمراني الهائل يجعل من الصعب الحفاظ على مثل هذه الممارسات.

وتبذل في الوقت الراهن جهود مشتركة ترمي إلى حماية وتطوير الهندسة المعمارية للبناء بالطين وتقنيات التشييد؛ كما تعمل اليونسكو في هذا المجال مع  CRAterre ENSAG / Labex AE&CC، وهي فرع متخصص من مدرسة غرنوبل للهندسة المعمارية في فرنسا، والصندوق العالمي للآثار، ومؤسسة آغا خان للثقافة، ومؤسسة بروتيرا، وغيرها.

ووجه الخبراء المعنيون بالهندسة المعمارية للبناء بالطين نداءً في المؤتمر يبرز دور المجتمعات وضرورة مواصلة التزامها في صيانة المباني الطينية القائمة. كما أنهم دعوا لجنة التراث العالمي لتعزيز مكانة الهندسة المعمارية للبناء بالطين في إطار الحفاظ على التراث الثقافي.

وتتسم كل هذه الأمور بأهمية حاسمة، وذلك ليس للحفاظ على الأبنية القائمة فحسب، وإنما للإبقاء أيضاً على المهارات التي استخدمت في تشييدها وصيانتها.

وعلاوة على ذلك، فإن الخبراء شددوا على ضرورة تعزيز الهندسة المعمارية للبناء بالطين لما تنطوي عليه من إمكانيات لمكافحة الفقر وحماية البيئة. إن الطين لا يمثل الأرض التي نقف فوقها فحسب، وإنما هو أيضاً البنية الضرورية لبناء مستقبلنا.

 

المصدر : اليونسكو

Print This Post