اسطنبول عاصمة موسيقى الجاز لعام 2013

2013/04/30

يأتي برنامج اليوم الدولي لموسيقى الجاز (30 أبريل 2013) في اسطنبول ليضيف صفحات جديدة إلى قصة انسجام طويلة تستمر منذ عقود.

توجد بين تركيا وموسيقى الجاز علاقة بناءة ومتعددة الأبعاد نُسجت خيوطها من سلسلة أحداث حصلت في بلدان مختلفة من العالم وأبرزت عظمة موسيقى الجاز بوصفها صنفاً موسيقياً يتسم بسلاسة وبقدرة على التكيّف نادراً ما تتسم بهما التقاليد الموسيقية الكلاسيكية.

وتبرِز هذه العلاقة أيضاً ثراء الموسيقى التركية التي تربطها بالجاز أوجه شبه كثيرة، وهو ما يؤكده بعض أكبر هواة وموسيقيي هذين الصنفين الموسيقيين. وتقدّم الموسيقى التركية، بفضل مساحة الارتجال التي تتيحها ومرونتها وقدرتها على احتضان الألحان والإيقاعات الجديدة، إمكانيات هائلة للمزج بين الصنف الموسيقي التركي وموسيقى الجاز. وفي مقابلة حديثة، وصف أحد عازفي الجاز في تركيا خصائص هذين الصنفين الموسيقيين اللذين يرتبطان بعلاقة مثمرة جداً نتيجةً لأوجه التضافر القائمة فيما بينهما، وقال: « يُعد نهج الارتجال الموسيقي ركيزة التأثير المتبادل بين موسيقيي الجاز وعازفي الموسيقى التركية. وأعطى العازف التركي مثلاً على التأثير المتبادل بين الجاز والموسيقى التركية التقليدية، مشيراً أمام مُحاوره إلى « الرموز الإيقاعية التي استوحى منها دايف بروبيك لحن « بلو روندو الا تورك »[1].

ويعود أحد أبرز معالم التقارب بين تركيا وموسيقى الجاز إلى عام 1934 عندما عُيِّن محمد منير إرتيغون سفيراً لجمهورية تركيا في الولايات المتحدة الأمريكية. وسرعان ما قرر ولدا السفير، نصوحي وأحمد، اللذان كانا يبلغان 17 و11 عاماً من العمر على التوالي في تلك الفترة، الغوص في عالم الجاز وأوساطه في واشنطن العاصمة. فكانا يرتادان أشهر أندية الجاز في المدينة وحوّلا منزلهما في فترة قصيرة إلى مساحة ترمز إلى أهمية موسيقى الجاز بوصفها قوة دافعة لتحقيق الوحدة. وما زال منزل السفير التركي في واشنطن يمثل حتى اليوم رمزاً للقدرة على تخطي العقبات الاجتماعية. ففي هذا المنزل أزيلت حواجز الانقسامات العرقية التي كانت قائمة في تلك الفترة عن طريق جمع فنانين سود وفنانين بيض لإقامة حفلات جاز ارتجالية احتفالاً بهذا الصنف الموسيقي الذي كان يتطور وقتذاك بوتيرة غير متوقعة. وتشكل عظمة هذا المكان الرمزي مصدر اعتزاز بالنسبة إلى السفير التركي الحالي في واشنطن. ولكن حسبما كرره أحمد إرتيغون في مناسبات عديدة، كان هذا المكان يستفز بعض الشخصيات المحافظة التي انتقدت والد الشابين لأنه كان يفتح أبواب المدخل الرئيسي لاستقبال ضيوفه الأمريكيين ذي الأصول الأفريقية. وواصل الشقيقان مساعيهما الرامية إلى النهوض بموسيقى الجاز وأسسا شركة « أتلانتيك ريكوردز » للإنتاج الموسيقي التي تعاونا في إطارها مع فنانين أحدثوا ثورة في عالم الموسيقى في أمريكا سرعان ما انتشرت إلى العالم أجمع. وشمل هذا التعاون عدداً من كبار مبدعي الجاز مثل جون كولتراين وتشارلي مينغس ودايف بروبيك وفرقة « مودرن جاز كوورتيت »، وفنانين بارزين آخرين تميزوا بأدائهم في تلك الفترة ومنهم راي تشارلز وأريثا فرانكلين وأوتيس ريدنغ وسولومون بورك وبن أ. كينغ.

ويشهد هذا « اللقاء الأول » على قدرة موسيقى الجاز على تجاوز الانقسامات الاجتماعية والسياسية والثقافية. ويعمد مغنون من الولايات المتحدة وتركيا إلى إعادة استثمار هذا البعد بصفة مستمرة. وافتتحت جامعة حاجي تبه بأنقرة في الفترة الأخيرة أول إدارة جامعية لموسيقى الجاز في تركيا. وحظي أحمد إرتيغون خلال الحفل الافتتاحي الذي نُظِّم في مارس 2010 بتكريم خاص للدور الجوهري الذي أداه في تعزيز موسيقى الجاز ونشرها وتطويرها.

ويعبّر الموسيقيون الأتراك باستمرار عن انسجام ألحانهم مع موسيقى الجاز التي تشكل في آن نموذجاً وإطاراً لتطوير الأنماط التقليدية للموسيقى التركية وتوسيع نطاقها. وثمة ما يدل على أن الجاز دخل إلى عالم الموسيقى التركية منذ زمن طويل، أي قبل قيام السفير إرتيغون وولديه بتشجيع تطوير موسيقى الجاز كنموذج للمقاومة الاجتماعية.

ووفقاً لباتو أكيول الذي تولى إخراج فيلم وثائقي عنوانه « الجاز في تركيا » [2] يُزمع إصداره قريباً، فإن موسيقى الجاز برزت أولاً على الساحة التركية « كموسيقى غربية هادئة » واتخذت مكانتها « كموسيقى الحرية » في مرحلة لاحقة. وأفضى تبني موسيقى الجاز وتحويلها في تركيا إلى ظهور أشكال جديدة للجاز ما كان أحد ليتصورها من ذي قبل. وفي الفيلم الوثائقي المذكور [3]، أوضحت المفكِّرة والباحثة المختصة بالجاز، سيدا بنبسجي، أن « موسيقى الجاز نبعت من الولايات المتحدة الأمريكية ولكنها منفتحة على جميع الثقافات والأصناف الموسيقية في العالم… ». وأضافت: « لا يمثل نمط الجاز دعوة للاستمتاع بعالم الموسيقى فحسب، بل يمثل أيضاً قوة تشجع الناس على التعاون وتقول لهم: « تعالوا نتعاون في عالم الجاز. ولنمزج بين أصنافنا الموسيقية الإثنية والتقليدية كي نعيش تجربة جديدة »".

وفي الفيلم الوثائقي عينه، قال الكاتب والباحث التركي غوكان أكسورا إن موسيقى الجاز دخلت إلى تركيا في مرحلة تأسيس الجمهورية. وروى في هذا الصدد قصة شاب أمريكي من أصول أفريقية اسمه توماس عاش في روسيا خلال حقبة النظام القيصري وعمل فيها كمدير نادٍ وقرر الانتقال إلى اسطنبول بعد الحرب العالمية الأولى. وعمل توماس في كازينو مكسيم في منطقة تكسيم حيث انضم إلى أوركسترا عُرفت باسم « سيفن بالم بيتش » كان جميع أعضائها موسيقيين أمريكيين من أصول أفريقية. وهكذا عاشت تركيا تجربتها الأولى في عالم الجاز وارتبطت بهذا الصنف الموسيقي بروابط حافظت على متانتها على مدى أجيال من الزمن وما زالت تتطور في عصرنا هذا. وأصبحت موسيقى الجاز التركية الآن أكثر حيويةً من أي وقت مضى. واكتسبت تركيا سمعة عالمية بفضل مهرجانات وحفلات الجاز العديدة التي تنظمها وكذلك بفضل تنوع الفنانين الأتراك الذين يتميزون بأدائهم اللامع على الساحة الموسيقية. وتأتي الفعاليات المميزة التي ستشهدها اسطنبول بمناسبة اليوم الدولي لموسيقى الجاز 2013 لتضيف صفحات جديدة إلى قصة انسجام طويلة، دائمة التطور.

المصدر: اليونسكو

Print This Post